الأحد، 9 مارس 2008

ستعصاء الحقيقة في دارفور

ستعصاء الحقيقة في دارفور
معن البياري الحياة

حـدث غيـر مرّة أن خالف كبير مساعدي الرئيس السوداني رئيـس السلطة الانـتـقـاليـة الإقليميـة في دارفور مني أركو مناوي خطاب المؤسسة السياسية الحاكمة في بلاده، وبيانات المؤسسة العسكرية. ومن جديد ذلك قبل أيام أنه وصف قصف جيش بلاده في ثلاث بلدات في ولاية غرب دارفور في 8 و9 شباط (فبراير) الحالي بأنه مجزرة، وطالب المجتمع الدولي بإجراء تحـقـيـق بواسطة القـوة المشتركة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي المتواجدة في الإقليم (يوناميد) بالتعاون مع السلطة الانتقالية للوصول إلى الحقائق، ومن ثم المحاسبة. وخالف مناوي بيانين للجيش ووزارة الخارجية في قوله إن البلدات الثلاث كانت خالية من أي وجود للتمرد المسلح أو المعارضة في أثناء قصفها واجتياحها.

وكان الجيش قد أعلن أنه استعاد في العمليات التي شنّها تلك البلدات بعد أن كانت بأيدي متمردين مسلّحين، وتم دحرهم إلى داخل تشاد، بعد أن خلّفوا وراءهم قتلى وجرحى ومعدّات. وقال بيان الخارجية إن القوات الحكومية هاجمت مسلّحي حركة العدل والمساواة التي دائما ما ترتكب أعمال عنف ضد المدنيين، وأن المناطق التي تم استهدافها جزء من الأراضي السودانية، ومن حقّ الدولة استردادها في إطار مسؤوليتها في بسط الأمن والسلام وتوفير أقصى درجات الحماية الممكنة للمواطنين المدنيين من الاعتداءات المتكررة للحركة المذكورة.

ولا يأتي البيانان الرسميان على ذكر أي أعداد لضحايا مدنيين في الحملة العسكرية الجديدة في الإقليم السوداني المنكوب، والذي قالت الخرطوم إنها أوقفت إطلاق النار فيه من جانب واحد عند افتتاح مفاوضات فشلت مع حركات ومجموعات مسلحة في ليبيا. وإذ يتعامى البيانان عن ذلك، يكون طبيعيا أن يلتفت المراقب لحالة التأزم الشنيعة والصراع الأهلي الذي لا يُراد له أن يتوقف في هذا الجزء من الأراضي السودانية إلى بيانات المنظمات الدولية ووكالات الأنباء الأجنبية التي تدأب السلطات السودانية على رميها بأنها مغرضة ومنحازة. وهذه «رويترز» تنقل عن شيخ قبيلة في إحدى البلدات قوله أنه يتوقع أن يتجاوز عدد الضحايا المائتين، وجميعهم مدنيون، ويذكر أن ثمة في اليوم التالي للهجوم المسلح 27 قتيلا، وأن معظم القتلى من زعماء القبائل أو المدرسين أو الذين يعملون مع الدولة. ويشارك زعيم قبلي في بلدة أخرى التوقعات بوصول القتلى إلى مائتين، ويشير إلى أسماء 44 منهم لديه من بلدة واحدة فقط. وتحفل تقارير بحديث شهود نفسها عن فظاعات مريعة وقعت، منها أن زعيما قبليا قتل في منزله مع عائلته بكاملها ومدرسي مدرسة كانوا في زيارته. ومنها أيضا أن شاهد عيان أبلغ «رويترز» هاتفيا أنه شاهد قنبلة تسوّي بالأرض كوخا فيه امرأة وثلاثة أطفال في داخله، وشاهد مهاجمين يقتلون سائقا من الهلال الأحمر السوداني، بالإضافة إلى أربعة مدنيين آخرين.

إذا أضيفت نتف الشهادات هذه وغيرها مما أوردته مواجيز إخبارية لوكالات الأنباء الأجنبية إلى إعلان المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أن 12 ألف سوداني من أهل المناطق التي استهدفها القصف الحكومي يومي الجمعة والسبت الماضيين فرّوا عقب ذلك إلى جنوب شرق تشاد، وبذلك زيدوا على نحو 280 ألف لاجئ في 12 مخيما في تشاد، وإذا ما أضيف هذا البيان الأممي إلى ما نسب إلى فريق تابع للأمم المتحدة تفقّد مناطق أمطرها القصف العسكري الحكومي في غرب دارفور أن بلدتين تم إحراقهما بشكل جزئي، بعد تعرضهما لهجوم «رجال يمتطون خيولا ترافقهم عربات»، وأن حالة هلع واسعة تمنع السكان من التحدث بصراحة ووضوح عن الذي جرى للفريق الأممي بسبب تواجد جنود سودانيين بينهم، إذا أضيفت هذه المعطيات إلى تجاهل بيانات الخرطوم أي إفادة بشأن المدنيين الذين قضوا وأصيبوا وحُرقوا ونُهبوا، فإنه لا يعود في وسعنا التـسليم بأن الحقـيـقـة ولا شـيء غيرها هو ما تقوله الخرطوم، وأن الكذب ولا شيء غيره هو ما يصدر عن وكالات الأنباء الأجنبية والمؤسسات الدولية.

وفي البال أن الحكومة السودانية لم تعقّب بأي توضيح مقنع على ما تحذير الجنرال رودولف أدادا أن القوات المختلطة التي يقودها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الهجمات التي يتعرض لها المدنيون في دارفور من القوات الحكومية، من باب أن حماية المدنيين وتعزيز السلام عنصران أساسيان في ولاية « يوناميد «. لم نقع على تعقيب حكومي سوداني على ذلك، فيما استهجن بيان وزارة الخارجية « معيارا مزدوجا « يتعامل به الأمين العام للأمم المتحدة والمبعوث المشترك للمنظمة الدولية والاتحاد الإفريقي وبعض الدول لإدانتهم الجيش القومي الذي يقوم بواجباته، بينما لم يحرّكوا ساكنا تجاه استيلاء حركات التمرد على المناطق الثلاث في غرب دارفور في عمل مسلّح، راح ضحيته أبرياء.

وفيما يصيبنا جزع شديد حين تعرّفنا «رويترز» بأن ثلث أكواخ بلدة سربا المبنية بالقش حرقت، وأن سوق البلدة تم نهبه، وأن الحيوانات النافقة تناثرت في الشوارع الرملية للبلدة، وأن العائدين إلى هذه البلدة من بعض أهلها الهاربين وجدوا متعلقاتهم تحولت إلى أكوام من رماد، وفيما تنقل الوكالة عن امرأة هناك قولها إن ميليشيات تمتطي الجياد والجمال قامت بعمليات سلب ونهب وحرق واغتصاب، وعن زعيم محلي قوله إن عشر فتيات اغتصبهن رجال الميليشيات، وإحداهن في العاشرة من عمرها، وان نحو ثلاثة آلاف شخص مفقودون، فيما المشهد على هذا النحو بحسب هؤلاء، يكرر الجيش السوداني أن الهجوم كان لقتال حركة العدل والمساواة التي اختبأ أعضاؤها وسط السكان وارتدوا ملابس مدنية، ويعرض بنادق وأسلحة ثقيلة وبنادق بعضها إسرائيلية الصنع، ويقول إنه عثر عليها في المنازل في البلدة التي احترقت في تبادل لإطلاق النار.

إنها القصة نفسها إذاً، منذ اندلاع الاحتراب الأهلي في إقليم دارفور منذ نحو خمس سنوات، واشتعال الاتهامات المتبادلة بين الحكم في السودان وغير منظمة وجهة ودولة في العالم بشأن الوقائع المتوالية هناك، والتي ما أن نطمئن إلى أن ثمة هدوءا يتحقق حتى نفاجأ بأخبار تتوالى عن قتل وترويع وتدمير وحرق قرى وتشرد لاجئين وغير ذلك من حوادث لم تفلح الجهود السياسية والأمنية في إنهائها. وفيما شاع وصار من بديهي الحقائق الرائجة في العالم أن مائتي ألف سقطوا ضحايا هذا الصراع تقول الخرطوم إنهم تسعة آلاف فقط، ولا تكترث برد على العدد الرائج للمشردين، وهو مليونان ونصف المليون.

ولأن تقريرا لفريق من اتحاد الصحافيين العرب زار الإقليم قبل ثلاثة أعوام ووجد أن ما يجري مجرد مؤامرة «إسرائيلية»، ولأن فضائيات في الإعلام العربي وصل بعضها إلى التصوير في القطب الشمالي وأدغال البرازيل، كسولة في تقصّي الحقائق وفي بذل جهد ميداني واستقصائي في جحيم دارفور، ولأن البيانات الرسمية السودانية انفعالية ودفاعية، ولأن القناعة متوطنة بين جموع العرب في مطارح غير قليلة أن الحكاية وما فيها مؤامرة أميركية وغربية وإسرائيلية لتفتيت السودان، أو صهيوأميركية، بلغة قيادي بارز في اتحاد المحامين العرب مرة، فإن التعرف إلى حقائق الذي يحدث هناك يبقى أمرا مشتهى، ومستعصيا ربما، بدليل أننا بشأن فظائع الأيام الماضية نضطر إلى تصديق بيانات وكالات أنباء أجنـبـيـة ومصادر أممية ودولية، على الرغم من رمي الخرطوم لها بأنها مغرضة.

كاتب أردني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق